تعتبر كنيسة العائلة المقدّسة من أهم البقايا المعمارية الصليبية في مدينة البيرة، وتقع الكنيسة وسط مدينة البيرة، إلى الشمال من الجامع العمري ، وجدارها الجنوبي ملاصق تماماً لجدار المسجد الشمالي.
كما أطلق على الكنيسة اسم ” كنيسة القديسة ماريا الأبرشية “، وكذلك كنيسة العائلة المقدّسة أو كنيسة الافتقاد.
تاريخ الكنيسة:
ذُكرتْ كنيسة البيرة في أيلول عام (1128 م)، عندما كانت البيرة والقرى المحيطة تحت سيطرة كنيسة القيامة، من قبل البابا هنوريوس الثاني متزامناً مع انسيلم كاهن البيرة في ذلك العهد، وكانت الكنائس الأبرشية في البيرة وبيت سوريك مثلاً تبنى في مناطق اللاتين، وتتبع مباشرة لسيطرة كهنة كنيسة القيامة ولبطريرك القدس املريك 1168-1169م، وللباباوات كل من ( الكسندر الثالث 1170) ولويكس الثالث 1182، وسليستن الثالث 1196.
عام 1172م ذكر الحاج الألماني ثيودوريك أنّ كنيسة البيرة كرست إلى القديسة ماريا، وذكر أيضاً أنّه وبالقرب من الكنيسة يوجد حجر متقاطع يرتفع سبع درجات، وكان الحجاج يتسلّقونه من أجل مشاهدة برج داود بالقدس( برج قلعة القدس)، الذي يقع على بُعد أربعة أميال إلى الجنوب من الكنيسة.
إن دلَّ ما ذكره الحاج الألماني ثيودوريك على شيء فإنّه يدلُّ على أنّه لم يزر البيرة نهائياً، ذلك كونه من المستحيل رؤية برج داود بالقدس من البيرة، حتى ولو كانت تلك الصخرة تعلو أكثر من 30 متراً، وذلك كون الطبيعة الطبوغرافية تجعل من الصعب والمستحيل رؤية البرج بالقدس من البيرة، وبالتحديد من ذلك المكان الذي ذكره ثيودوريك، هذه الحادثة تدلّ أيضاً على أنّ المؤرخين والآثاريين قد تناقلوا القصّة عن ثيودوريك دون تمحيص، ودون التأكّد من مصداقيتها، حيث أنّه من ذلك المكان الذي ذكره ثيودوريك يمكن فقط رؤية مقام النبي صموئيل، وبالتالي وإذا افترضنا أنّ ثيودوريك زار البيرة، فإنّه ولربما خلط بين برج القلعة في القدس ومقام النّبي صموئيل.
وحسب الباحث عوني شوامرة وفي كتابه تاريخ البيرة ومعالمها الأثرية، ذكر شوامرة “أنّ الكنيسة عام 1195م قد تحوّلت إلى مسجد بعد أن استعاد صلاح الدين الأيوبي البيرة”.
وفي القرن الرابع عشر كان شائعاً بين اللاتين أنّ الكنيسة بُنيتْ فوق المكان الذي فقدت فيه العائلة المقدسة ابنها عيسى –عليه السلام- أثناء سفرهم ما بين القدس والناصرة.
ذكر باجاتي أنّ حاجاً غير معروف، ذكر بأنّ الكنيسة كرّست إلى سانت ماريا ( مريم العذراء) عليها السلام، وهناك فقدت مريم ابنها المسيح، ويعتمد بعض الأثريين والمؤرخين مثل دنيس برينجل على الكتاب المقدس لتأكيد الحادثة، وذلك من خلال ما ذُكر في إنجيل لوقا الإصحاح الثاني آية (41-46). وفيما يلي نص الآيات:
يسوع في الهيكل بين العلماء
41 وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح.
42 فلما بلغ اثنتي عشرة سنة، صعدوا إليها جرياً على السنة.
43 في العيد فلما انقضت أيام العيد، ورجعا، بقي الصبي.
44 يسوع في أورشليم، من غير أن يعلم أبواه وكانا يظنّان أنّه في القافلة، فسار مسيرة يوم ثمّ أخذا يبحثان عنه.
45 عند الأقارب والمعارف، فلما لم يجداه، رجعا إلى أورشليم.
46 يبحثان عنه، فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالساً.
من خلال الآيات التي تقّدم ذكرها، فإنّ البيرة لم تُذكر لا من بعيد ولا من قريب ولو أنّ الافتقاد كان فعلاً في البيرة لسارعتْ المسيحية في الفترة البيزنطية بإقامة كنيسة أم مقامٍ ديني يخلّد تلك الحادثة، أيضاً يوجد طريق آخر يربط القدس بالنّاصرة دون المرور بالبيرة في ذلك الوقت، وهي طريق ( القدس- القبيبة-عمواس –الرّملة-اللد-النّاصرة).
وصف Barbone Morosini في القرن السادس عشر (1514 م) الكنيسة حيث كانت الجدران بحالة جيدة، ما عدا تدمير في السقف، وفي القرن السابع عشر ذكر دومانيكو ليفي أنّ أجزاء الكنيسة متهدّمة ، وكانت تستخدم كمأوى للمسافرين وبها إسطبل للحيوانات ، إضافة إلى أنّ هنالك نجمة تخصّ الفرقة التي كانت بالكنيسة، وفي الوقت ذاته ذكر الأب كورسيم أنّ القرية ( البيرة) مدمّرة وكان يسكنها عدد قليل من السكان، أيضاً في القرن السابع عشر قيل أنّ الكنيسة بُنيتْ من قبل الإمبراطورة هيلانة، وقد ذكر كتويك كلا القصتين حول الكنيسة:
قصة الافتقاد، والعائلة المقدّسة، وقصّة الإمبراطورة هيلانة، وأثناء زيارته للكنيسة شاهد جزءاً من الرّخام مدفوناً فيها، وهو عبارة عن حوض المعمودية وقد عُمل على شكل صليب، ويقع في الجناح الجنوبي للكنيسة.
في القرن التاسع عشر(1855 م) وصف الرّاهب بيرنالدو، الذي زار الأرض المقدّسة، الكنيسة ولا سيما الجدران الخارجية التي أوصلها بالسّقف من خلال إجراء رفع معماري للمبنى، وإعادة تصوّر للبناء، كذلك وصف الحجارة ذات الشّكل المربّع.
عام 1903 م زار جرانت الكنيسة، حيث ذكر أنّها أفضل مبنى متماسك يعود للفترة الصليبية في فلسطين، وفي نفس العام أصيب العديد من الأبقار والحمير أثناء إنهيار في أجزاء الكنيسة جرّاء الزلزال الذي ضرب المنطقة، علاوة على أنّ مدخل الكنيسة ومحيطها مغطى بالحشائش، ويستخدمه الجيران كمكان لتجفيف روث الحيوانات.
معظم بقايا الكنيسة بقيت محافظة على شكلها حتى الحرب العالمية الأولى، عندما هدمها الجيش التركي من أجل بناء جسر حجري.
زار باجاتي الكنيسة عام 1945م ، وذكر أنّ أرضية الكنيسة قد غطيت بالأتربة وقد أصبحت أرضاً زراعية، وهي تتبع في ملكيتها لليونان ولا أحد يسكنها، علاوة على ذلك شاهد باجاتي مزولة ( Sundial) لها خمسة خطوط إشعاعيّة، وقد نُقشت على حجر طوله 20 سم.
تخطيط الكنيسة:
استخدم الطراز الرومانسكي في كنيسة البيرة، وهذا الطراز استخدم في الكنائس التي بناها الصليبيون في بداية القرن الثاني عشر الميلادي، وتطوّر هذا النّمط المعماري في أوروبا في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ووصل ذروته بدرجة عالية من التقدّم في القرنين الحادي عشر وبداية القرن الثاني عشر في مملكة بيت المقدس.
يتبع تخطيط كنيسة البيرة لنظام البازيليكا، وهي ذات شكل مستطيل أبعاده ( 22م*34م-37م)، وتتكوّن من أروقة جانبية على طول امتداد البناء، ويفصلها عن صحن الكنيسة أعمدة أو ساريات حجرية، وفي الجهة الشرقيّة يوجد ثلاث حنيات نصف دائرية ( أو محاريب) غير ظاهرة من الخارج بسبب سماكة الجدران.
البقايا المعماريّة للكنيسة:
تعرّضت كنيسة البيرة إلى العديد من عوامل التدمير منها: عوامل النّشاط الإنساني بالإضافة إلى العوامل الجويّة من انهيارات وانجرافات وتعرية وغيرها، وبالتالي فقد تهدّم الكثير من أجزائها وظلّتْ بعض أساساتها قائمة منها:
المدخل:
يتوسّط المدخل الجهة الغربية من الكنيسة، وظلَّ محافظاً على شكله حتى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، أما حجارته فكانت متفككة وآيلة للسقوط، ولكن من السهل إعادة بنائها والمحافظة على المدخل.
من خلال البقايا المعمارية التي ما زالت ظاهرة، فإنّ مدخل الكنيسة كان على طرفيه عمودان أو دعامتان يعلوهما قوس يتقدّم الباب أو المدخل، وربما كان يُصعد إلى مدخل الكنيسة من خلال بضع درجات، ومن ثمّ يتم النزول إلى فناء الكنيسة عبر درج مكوّن من ثلاث درجات بطول 240 سم للدرجة الواحدة، ويتفاوت ارتفاعه ما بين 20سم-30 سم ، ويلاحظ أنّ الدرج قد بُني من حجارة مشذّبة، ومدقوقة بشكل جيّد، ويوجد هنالك درجة رابعة بنفس الارتفاع والاتجاه.
أرضيّة الكنيسة:
قطعت أرضيّة الكنيسة بالصّخر، حيث ظهر تفاوت في مستوى سطح الأرض، وذلك حسب خصائص الصخر ومكوّناته، في البداية رُصفتْ الأرضيّة ببلاطات حجرية ذات سطح أملس بأحجام متفاوتة منها(30*(30-40)*35) سم، وذلك لتسوية الأرضيّة قبل وضع البلاط، الذي كان يغطّي بدوره أرضية الكنيسة، والذي لم يبقَ من أثره شيء.
الجدران:
بُنيتْ الجدران الداخلية للكنيسة من الحجارة المدقوقة بشكلٍ جيّد، بينما الجدران الخارجية، ( ومن خلال الجدار الجنوبي الوحيد الذي مازال قائماً )، فقد بنيتْ من حجارة غير مشذّبة، وخشنة بأحجام مختلفة، ووضعت بينها حجارة صغيرة لتثبيت الحجارة الكبيرة.
غُطيت الجدران الداخلية بطبقة من القصارة، وقد زيّنتْ القصارة بزخارف وعلامات أشبه بغصن النخيل، ( حيث ظهرت نفس الزخارف على الجدران في البناية المركزية ( الخان)، وكذلك في مقام الشيخ شيبان)، وفي فترة لاحقة غطيت الجدران بطبقة أخرى من القصارة البيضاء ، ثمّ نفذت عليها رسومات مازالت بقاياها ظاهرة بالكنيسة، ولا سيما في الزاوية الجنوبية الغربية، وقوام تلك الزخارف خطوط من الدهان ذات اللون الأحمر الضارب إلى اللون البُني ، إضافة إلى رسومات أشبه بأوراق نباتية، وأشكال لولبية.
على جوانب الجدران عملت مقاعد تلف داخل الكنيسة، بعضها قطع بالصّخر أثناء قطع الأرضيّة، والبعض الآخر بني من حجارة ضخمة، وترتفع تلك المقاعد عن الأرضية الحالية من 30-40 سم، وعرضها 35-45 سم، أي أنّها متفاوتة الأبعاد، وتبرز الدعامات والأعمدة عن الجدران الداخلية، التي كان يستند عليها السقف، وقد فُتح في الجهة الجنوبية باب يعلوه عقد نصف دائري بني من حجارة مشذّبة.
الجريسة:
على يسار درج المدخل يوجد برج الجريسة، ويبعد عن زاوية الكنيسة الشمالية الغربية (430) سم، ويتكوّن برج الجريسة من قاعدة مربّعة الشّكل أبعادها (140*140) سم و يتم الصعود إليه من خلال درجة ترتفع عن أرضية الكنيسة 30 سم، وبعرض 60 سم ، ويبدو أنّ برج الجريسة كان يتم الصعود إليه من خلال درج حجري لولبي.
السقف:
من خلال الصور التي التقطت للكنيسة على فترات زمنية مختلفة فإنّ سقف الكنيسة كان مستوياً، والأروقة الجانبية سقوفها متشابهة ذات عقود متقاطعة، أما صحن الكنيسة فربما سُقف من عقود متقاطعة أو عقد طويل مدبب، ويظهر أيضاً أنّ الأروقة تقل في ارتفاعها عن سائر الكنيسة، وقد تم فتح مناور ( شبابيك) في جدران الكنيسة التي ترتفع عن الرواق كي تسمح لأشعة الشمس أن تصل إلى صحن الكنيسة، ويحمل السقف بدوره على دعّامات أو أعمدة بارزة عن الجدران الداخلية، أمّا دعّامات الوسط فكانت قواعدها مربّعة الشّكل، وتبرز من منتصف أضلاع المربع أنصاف دوائر تشكّل بدورها قواعد للأعمدة الملاصقة للدعّامة، والتي ترتفع فوقها العقود المدبّبة، وتتقاطع تلك العقود مع عقود دعّامات أخرى لتشكّل العقود المتقاطعة، بعض تلك الأعمدة كان يعلوها تيجان بأشكالٍ مختلفة، وزخارف متنوعة منها ورقة الأكانش، وأشكال لولبية حلزونيّة، بعضها بها ورقة الأكانش يتوسطها خطّان متوازيان غائران، وفي كلتا الحالتين، فإنّ ورقة الأكانش محورة عما كانت عليه في الفترات السابقة.
النظام المائي في الكنيسة:
في الجهة الجنوبية من منتصف الجدار عُثر على قناة فخارية عُملتْ داخل الجدار، قطرها يتراوح ما بين (6-7) سم، وقد غُطيتْ ببلاطات حجرية، وتمتد باتجاه الشّمال وتصب بدورها في بئر ماء، بني باب البئر من حجارة مدقوقة ومشذّبة، أما أبعاد الباب (144*54) سم وبعمق 40 سم، حيث يبدأ القطع الصخري الذي يشكّل البئر، وفي الزاوية الجنوبية الشرقيّة منه تظهر فتحة القناة الفخارية التي كانت تزوّد البئر بالمياه من السطح، ويمكن الافتراض بأنّ سطح الكنيسة كان مستوياً، على الأقل سطوح الأروقة، وقطع البئر في الصخر بعمق 6 م تقريباً بشكل غير منتظم، في حين أنّ أرضية البئر غطيتْ بالأتربة والحجارة، في الجهة الغربية يظهر جدار مبني من حجارة يبدأ من أرضية البئر وحتى أرضية الكنيسة، ويُشكّل هذا الجدار قاعدة إحدى الدعّامات التي يقوم عليها سقف الكنيسة ، وبجانب تلك الدعّامة يوجد حوض التعميد ذو الشكل المربع 120*120 سم ويتوسّط حجرة الحوض، حوض آخر على شكل صليب.