في قلب مدينة البيرة، وسط الضفة الغربية، تقف “الأحواش” كشاهد حي على تاريخ المدينة العريق، وكمأوى لذاكرة جماعية تختزن في جدرانها طيفاً من الحكايات التي تروي أوجه الحياة اليومية والاجتماعية لعائلات المدينة الأصيلة. إنها ليست مجرد أبنية من الحجارة، بل نسيج اجتماعي وثقافي متكامل يمثل الهوية المتجذرة والموروث الحضاري العريق لسكان البيرة.
وتُعد مدينة البيرة بكل معالمها، من بيوت وأحواش وأزقة قديمة، إرثاً حضارياً وتاريخياً يُدلل على عمق جذورها وأصالة أهلها. وتبذل بلدية البيرة جهوداً كبيرة في سبيل الحفاظ على هذا الموروث الثقافي، من خلال أعمال الترميم والصيانة لما تبقى من تلك الأبنية التراثية.
الأحواش نواة الحارات وأصل الهوية البيراوية
وتُشكل “الأحواش” في البيرة نواة الحارات الأولى، ومنها انبثقت العائلات البيراوية الأصيلة. فهي كنوز تاريخية وإرث حضاري حي، تعكس قيم التكافل الاجتماعي، حيث كان يتم بناء الأحواش وتوزيعها وفقاً للملكية وروابط الدم، فتسكن العائلات ذات النَسَب المشترك في نفس الحوش، ما يُجسد انعكاساً طبيعياً للمفاهيم الثقافية الموروثة والبنية الاجتماعية التي سادت في الماضي…….
العمارة التقليدية للأحواش.. وحدة المكان وروح الجماعة
يؤكد علاء الدين قرعان، رئيس قسم السياحة في بلدية البيرة، أن تحليل البنية المكانية والمعمارية لأحواش المدينة يضعنا أمام نموذج معماري فريد يمزج بين الوظيفة الحياتية والانتماء الاجتماعي، ويعكس بصورة دقيقة طبيعة المجتمع الريفي الفلسطيني في العقود الأولى من القرن العشرين، قبل أن تطرأ عليه التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
ويقول قرعان إن الأحواش جسّدت مفاهيم القرابة والتكافل، حيث شكّلت بنية عمرانية واجتماعية متكاملة، تقوم على وحدة العائلة الممتدة وتشاركها في الفضاء والمعيشة ومصادر الماء. وقد احتوى كل حوش على بوابة مقوسة أو مدعّمة بعناصر معمارية مستوحاة من الطراز الروماني، ترتكز على عتبة حجرية، وتُغلق بأبواب خشبية صلبة. هذه البوابات، كما يوضح، لم تكن مجرد تفاصيل زخرفية، بل حملت رمزية معمارية واضحة تُعبّر عن الانتقال من الفضاء العام إلى الخاص، والدخول إلى عالم مغلق على مكوناته الاجتماعية.
تصميم الأحواش.. عبقرية المعمار الريفي ووحدة الحياة اليومية
وراء البوابات المقوّسة لأحواش البيرة، تنتظم البيوت الصغيرة بتوزيع دقيق، إما على شكل مربع أو مستطيل، تحيط بساحة مركزية تُعدّ محور الحياة اليومية للأسرة الممتدة. يتكون البيت التقليدي من طابقين؛ الطابق السفلي خصّص لإيواء الأغنام والدواجن وتخزين الأدوات الزراعية، بينما يُستخدم الطابق العلوي للسكن والمعيشة. يؤدي درج داخلي حجري إلى غرفة “المصطبة”، الأقرب إلى الدرج، حيث يقضي أفراد العائلة أوقاتهم اليومية، وتُستخدم أيضاً للنوم. أما “الرواية”، وهي الغرفة الداخلية الأبعد، فقد خصصت لتخزين جرار الزيت والطحين وطعام المواشي.
ومن أبرز سمات العمارة البيراوية التقليدية، انتشار العلالي، وهي غرف مرتفعة تُشيّد فوق البيوت الرئيسية، يُصعد إليها عبر درج حجري خارجي من ساحة الحوش. وتمتاز هذه الغرف بارتفاعها، وانفتاحها على المحيط، وتهويتها الطبيعية الممتازة بفضل نوافذها الصغيرة المنخفضة. وقد استُخدمت العلالي للمبيت أو لاستقبال الضيوف المميزين، نظراً لما توفره من خصوصية وراحة….
وتبقى ساحة الحوش القلب النابض لكل هذا التكوين المعماري والاجتماعي. وسطها بئر أو بئران، خُصصا لسقاية السكان والمواشي. ولم تكن الساحة مجرد فراغ عمراني، بل فضاء مشترك لطقوس الحياة اليومية؛ ساحة أفراح ومجالس عزاء، وورشة مفتوحة لأعمال النساء من تطريز وخبز وغسل، كما تحوّلت أيضاً إلى ملعب طبيعي لأطفال الحي، ومسرح حيّ لتفاعل الأجيال.
يُظهر هذا التخطيط المعماري المتكامل كيف نجح المعمار الفلسطيني التقليدي في تحقيق معادلة دقيقة بين الخصوصية الاجتماعية، والوظيفة الحياتية، والتكيّف مع البيئة، بأساليب بنائية بسيطة لكن عميقة الدلالة، تضع الأحواش في مصاف النماذج العمرانية التي تستحق الحفظ والدراسة والتوثيق.
الاقتصاد الريفي في البيرة.. من الفلاحة إلى بدايات التحول الاجتماعي
في بدايات القرن العشرين، شكّلت الزراعة وتربية الحيوانات الركيزة الأساسية لاقتصاد سكان مدينة البيرة. فقد كانت معظم العائلات تنتمي إلى طبقة الفلاحين، يعيشون مما تدرّه عليهم الأرض والمواشي. مشهد الفجر كان يتكرر يوميًا؛ الرجال يغادرون الأحواش مع “زوادة الطعام” متجهين إلى الحقول، بينما تبقى النساء في الحوش للقيام بالأعمال المنزلية: تنظيف البيت، إعداد الطعام، رعاية الأطفال، وإطعام الدواجن والأغنام.
غير أن التحولات الكبرى بدأت تظهر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حين بدأت موجات الهجرة الأولى إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، ورافقها دخول عدد من سكان المدينة في ميادين التجارة والمهن الحديثة. هذه التغيرات لم تكن سطحية؛ بل انسحبت تدريجيًا على البنية الاجتماعية والمعمارية للأحواش.
فمع تغيّر مصادر الدخل وتنوّع أنماط الحياة، بدأت البيوت تشهد تحولاً في تصميمها الداخلي: اختفى الدرج الحجري الداخلي الذي كان يربط بين الطابقين لصالح درج خارجي، وتم نقل الحظائر والمواشي إلى خارج البيت، في مؤشر واضح على تراجع الاعتماد المباشر على تربية الحيوانات كمصدر رئيس للمعيشة، مقابل صعود أنماط معيشية أكثر تحضّرًا.
هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في أسلوب البناء، بل تحوّل في بنية المجتمع ونظرته إلى المكان. فقد أصبح الحوش تدريجياً أقل مركزية في حياة العائلة، مع دخول الفرد في دوائر العمل والأسواق والمدن، ما مثّل بداية التباعد عن النمط الجماعي التقليدي، الذي شكّل لقرون أساس الحياة في البيرة.
ملامح الحياة اليومية في الأحواش.. انتظام معماري ونبض اجتماعي
لا تزال بعض الأحواش في مدينة البيرة قائمة حتى اليوم، محتفظة بجوهرها المعماري رغم عوامل الزمن. يقول قرعانإن “الأحوااش المتبقية ما زالت محافظة على طابعها المعماري المميز ككتل متلاصقة، تحمل روح المكان وتروي حكايات أهله.” ويشير إلى نماذج باقية مثل حوش عوض الله – وإن كان مهجوراً، وحوش عابد، ودار عامر، حوش دار ابو عيد، بينما اندثرت أحواش أخرى مثل حوش عبد الهادي وحوش هري لإقامة مؤسسات تعليمية، من بينها مدرسة المغتربين، وكذلك مدرسة خولة بنت الأزور، مما يعكس التحولات العمرانية والاجتماعية التي شهدتها المدينة عبر العقود الماضية.
ورغم بساطة الحياة في تلك الحقبة، كانت الأحواش تنبض بالحيوية والنشاط. يستيقظ الرجال عند الخامسة صباحًا حاملين “الزوادة” متوجهين إلى الحقول والمزارع لمباشرة أعمالهم الزراعية، بينما تبقى النساء في الحوش ليقمن بمهام البيت اليومية: تنظيف وترتيب اللحف، إطعام الدواجن والأغنام، رعاية الأطفال، وإعداد الطعام الذي كان يعتمد أساسًا على البقوليات والمحاصيل الموسمية.
التحديات.. خطر الهدم والاندثار يهدد ذاكرة البيرة المعمارية
رغم القيمة التاريخية والمعمارية الفريدة التي تمثلها أحواش مدينة البيرة، فإن العديد منها بات مهددًا بالزوال، إما بسبب الإهمال، أو نتيجة التوسع العمراني غير المخطط، أو بفعل العوامل الطبيعية، بل وأحيانًا نتيجة استخدامها في أنشطة لا تراعي طابعها التراثي. بعض الأحواش هُدمت بالكامل، بينما طُمست معالم بعضها الآخر خلف واجهات إسمنتية حديثة، شوهت هويتها الأصلية.
ويشير قرعان إلى أن هذه التحديات تُقلق المهتمين بالتراث العمراني، مؤكداً أن “البلدية تبذل جهودًا جبارة للحفاظ على ما تبقى من الأحواش من خلال توثيقها ميدانيًا، وإعداد دراسات تهدف إلى حمايتها من التعدي أو النسيان، خاصة في ظل ضعف التغطية الإعلامية والبحثية لهذا الملف المهم”.
ومن أجل تفعيل هذا الإرث وتسليط الضوء عليه، أطلقت البلدية مؤخرًا مبادرة تنظيم سوق شعبي بتاريخ الأول من أغسطس، ليكون فعالية ثقافية مجتمعية ضمن رؤية تنموية شاملة تساهم في إحياء الأحواش ودعم المجتمع المحلي.
ويؤكد قرعان أن استمرار غياب الدعم المؤسسي والمجتمعي قد يُسرّع من وتيرة اندثار هذه الكتل المعمارية، التي لا تمثّل فقط حجراً وطيناً، بل هي جزء حي من الذاكرة الجمعية والهوية الثقافية لمدينة البيرة.
الختام.. التراث ليس ماضياً بل مستقبل يستحق الحفظ والتطوير
ليست الأحواش في مدينة البيرة مجرد ذاكرة حجرية صامتة، بل هي رواية حضارية عميقة يجب توثيقها، حمايتها، وتوريثها للأجيال القادمة. إن الحفاظ على هذه المعالم التراثية يعني الحفاظ على جوهر المدينة وذاكرتها الحية التي لا تزال تنبض في تفاصيل الساحات، والمصاطب، والعلالي.
مدينة البيرة، بطابعها المعماري والاجتماعي الخاص، تستحق أن تحتل مكانة بارزة على خارطة التراث الثقافي الوطني والعالمي، ليس فقط كنموذج من الماضي، بل كركيزة أساسية لتخطيط حضري مستدام يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمكان، ويمنح التراث دوره الحقيقي في صناعة المستقبل.